قضى الإمام الحسين وأصحابه (عليهم السلام) ليلة العاشر من المحرم بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن، وكان لهم دويّ كدوي النحل، وحركة واستعداد للقاء الله سبحانه، يصلحون سيوفهم ورماحهم، فباتوا تلك الليلة ضيوفاً في احضان كربلاء، وبات التاريخ أرقاً ينتظر الحدث الكبير.
في صباح اليوم العاشر، وإتماماً للحجة على اعدائه، طلب الحسين (عليه السلام) من
جيش يزيد أن ينصتوا إليه لكي يكلمهم، إلا انهم أبوا ذلك، وعلا ضجيجهم، وفي النهاية سكتوا، فخطب فيهم معاتباً لهم على دعوتهم له وتخاذلهم عنه، كما حدّثهم بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين، من ولاة بني أمية، مما عُهد إليه من جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبيه علي (عليه السلام)، وهو ما تحقق فعلاً، وخص في ذلك عمر بن سعد الذي كان يزيد يمنّيه بجعله والياً على الريّ وجرجان، بأنّ حلمه ذاك لن يتحقق وأنه سوف يقتل ويرفع رأسه على الرمح.
عاد الإمام الحسين (عليه السلام) مرة اخرى على ظهر فرسه، ووقف امام الجيش الاموي وخاطبهم: «أمّا بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا الى انفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار ذوالجناحين عمي؟ أولم يبلغكم قول مستفيض انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟…»، فلم يستجب له أحد ثم خاطبهم: أما ترون سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولامة حربه وعمامته عليّ، قالوا: نعم. قال: لم تقاتلوني، فلم يجيبوا إلا بجواب الإمّعة الذي لا يملك رأياً ولا إرادة ولا يُميّز بين التبعية العمياء والطاعة القائمة على وعي وفهم سليم، أجابوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد.
واستحوذ الشيطان على ابن سعد فوضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى مخيم الحسين (عليه السلام) وقال: اشهدوا انّي أول من رمى، فتبعه جنده يمطرون آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بوابل من السهام.
عظم الموقف على الإمام الحسين (عليه السلام) ثم خاطب اصحابه: «قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه، فان هذه السهام رُسل القوم اليكم»، فلبوا النداء وانطلقوا كالاسود يحاربون العدو، واستمرت رحى الحرب تدور في ميدان كربلاء واصحاب الحسين (عليه السلام) يتساقطون الواحد تلو الآخر، وقد أرهقوا جيش العدو واثخنوه بالجراح، فتصايح رجال عمر بن سعد: لو استمرت الحرب بيننا لأتوا على آخرنا، لنهجم عليهم مرة واحدة، ولنرشفهم بالنبال والحجارة.
استمر الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين (عليه السلام)، وأحاطوا بهم من جهات متعددة، فتعالت اصوات ابن سعد ونداءاته إلى جيشه وقد دخل المعسكر يقتل وينهب: (احرقوا الخيام)، فضجت النساء، وتصارخ الأطفال، وعلا الضجيج وراحت ألسِنة النار تلتهم المخيم وسكّانه يفرّون فزعين مرعوبين.
لم يهدأ سعير المعركة وراح من بقي من اصحاب الحسين (عليه السلام) وأهل بيته يستشهدون الواحد تلوا الآخر، استشهد ولده علي الاكبر، واخوته، وابناء اخيه، وابن أخته،وآل عقيل وآل علي (عليه السلام)، مجزرين كالأضاحي وهم يتناثرون في أرض المعركة وكذا بدأ شلال الدم ينحدر على أرض كربلاء، وصيحات العطش والرعب تتعالى من حناجر النساء والاطفال.
ركب الإمام الحسين (عليه السلام) جواده يتقدمه أخوه العباس بن علي (عليه السلام) وتوجه نحو نهر الفرات ليحمل الماء الى العيال، فحالت حشود العدو دونه فاصبح هو في جانب واخيه في جانب آخر، وكانت للبطل الشجاع أبي الفضل العباس (عليه السلام) صولة ومعركة حامية طارت فيها رؤوس وتساقطت فرسان، وهو يصول ويجول في ميدان الجهاد بعيداً عن أخيه حتى خرّ صريعاً سابحاً بدم الشهادة.
تعلّق قلب أبي عبد الله (عليه السلام) بمخيمه وما خلفت النار والسيوف بأهله وحرمه، فراح ينادي وقد طوقته قوات الاعداء وحالت بينه وبينهم، فصاح بهم: «أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جُناح فامنعوا عُتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حياً»، إلا انهم استمروا في هجومهم على المخيم ولم يعبأوا لكلامه.
استمر الهجوم عنيفاً والإمام (عليه السلام) منهمكاً في قتال اعدائه الى أن سدد له أحد الأجلاف سهماً، استقر في نحره الشريف، وراحت السيوف والرماح تنزل عليه كالمطر الغزير، فلم يستطع مقاومة الألم والنزف فوقع على الأرض ولم يكفوا عنه لأن روح الحقد والوحشية التي امتلأت بها جوانحهم لم تسمح بذلك؛ بل راح الملعون شمر بن ذي الجوشن يحمل سيفه ليقطع غصناً من شجرة النبوة وليثكل الزهراء (عليها السلام) باعز أبنائها، ففصل الرأس الشريف عن الجسد ليحمله هدية للطاغية، ذلك الرأس الذي طالما سجد لله، وحمل اللسان الذي ما فتئ يُردد ذكر الله، وينادي: «لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد» الرأس الذي حمل العز والاباء ورفض ان ينحني للعتاة أو يطأطئ جبهته للظالمين.
وهكذا وقعت الجريمة البشعة جريمة يوم العاشر من المحرم عام (61) هـ، حقاً انه لمنظر بشع فالرأس الشريف قد حيل بينه وبين الجسد والجسد قد استحال الى كتاب خًطت عليه الجراح بمداد الدم ليسجل بذلك أروع ملحمة في تاريخ البشرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق